« حرية العقيدة في الإسلام» ..الحلقة التاسعة والعشرون من الجزء الثاني من كتاب ومضات على الطريق للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
أعزاءنا القراء.. من جديد نواصل معكم نشر الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق، وهو عبارة عن مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، وجاءت الحلقة التاسعة والعشرون بعنوان “حرية العقيدة في الإسلام ” يتحدث فيها المؤلف عن كون علاقة الإنسان مع ربه علاقة مقدسة، حيث ترك الله للإنسان حرية اختيار الإيمان وعدمه مستشهدا بالعديد من الآيات القرآنية التي تبين ذلك، ومحذرا كل من تسول له نفسه أن يُنَصِبها رقيبًا على عقائد الناس، بأنه قد تجرأ على الله وخالف أمره، وباء بغضب الله وعقابه وإلى نص ما كتب المؤلف.
حرية العقيدة في الإسلام
لقد أرسل الله رسوله (ﷺ) لِيُبَلِّغ الناس الخطاب الإلهي، ويشرح لهم رسالة الإسلام، حيث يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ «٦٧») (المائدة).
حيث حدّد الله -تعالى- للرسول مهمته في إيصال رسالة الإسلام بقوله ) :ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «١٢٥») (النحل).
وأمره الله سبحانه بقوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢٩») (الكهف). مما يعني بأنَّ الله -تعالى- ترك للإنسان الحُريّة المُطلقة لاختيار العقيدة أو الدين الذي يقتنع به، فلا وصاية لإنسان أو سلطان على عقائد البشر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ «١٠٧») (الأنعام).
وقوله تعالى يخاطب رسوله الأمين: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٩٩» وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ «١٠٠») (يونس: ٩٩-١٠٠).
وقال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «٢٥٦٥») (البقرة).
لذلك، فإنَّ علاقة الإنسان مع الله علاقة مقدسة، وقد ترك له حرية الإيمان وتوحيده وحرية الالتزام بآياته دون تدخل من البشر، لا نبي ولا رسول ولا سلطان ولا الوالدين ولا الأوصياء.
والله -سبحانه- سيحاسب الإنسان كلاً بعمله، كقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «٣١») (النجم).
فالله اختص وحده بالحكم على عباده يوم الحساب، حيث يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «١٧») (الحج).
فإذا كان الله سبحانه قد أوضَّح للناس بتلك الآيات أنَّه لا وصاية لأحدٍ من خلقه على خلقه في عقائدهم ودياناتهم، ومَنَحَهُم الحرية المطلقة لاختيار عقائدهم، ولم يمنح رسولاً أو سلطانا حق الرقابة، ومحاسبة الناس على دياناتهم، ومن يفعل ذلك فقد ارتكب إثمًا عظيمًا سَيُحَاسَب عليه يوم القيامة حسابًا عسيراً، لأنه اعتدى على حق الله في محاسبة خلقه.
فليحذر كل من تسول له نفسه أن يُنَصِبها رقيبًا على عقائد الناس، فقد تجرأ على الله وخالف أمره، وما أقرته آياته بأن الحُكْمَ لله وحده، فقد باء بغضب الله وعقابه.
وأنَّ قضية المرتد إنما تم استغلالها سياسيًا للانتقام من الخصوم واستباحوا بظلم القاعدة الإلهية التي أقرها القرآن الكريم بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ «٥٤») (المائدة).
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الله تعالى لم يُقر في آياته حقًا لبشر في محاسبة من يرتد عن دينه، سواء كان ملحدًا أو كافرًا أو لا يقوم بشعائر العبادات. ذلك أمر بينه وبين الله، لأنه هو الذي سَيُحاسب كل إنسان على عمله، ولن يَشْتَرك معه أحد في المحاسبة يوم القيامة، حيث يقول سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «٣٨») (المدثر ).
وإضافةً لما سبق، قوله تعالى يخاطب رسوله الكريم في سورة الغاشية: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ«٢١» لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ«٢٢» إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ «٢٣» فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ «٢٤» إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ «٢٥» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم «٢٦») (الغاشية: ٢١-٢٦).
ويُحدد الله سبحانه تكليفه لرسوله : عليك تذكير الناس بالقرآن وآياته، وليس عليك مسئولية استجابتهم لك أم الإعراض عن دعوتك لهم، فإنهم سَيُرجَعُون إلى الله يوم القيامة فيحاسبهم على كفرهم ويعذبهم عذابًا عظيمًا، لذلك فليس على الرُّسُل والأنبياء إلا البلاغ للناس بما كلفهم به سبحانه من رسالاته التي نقلها الأنبياء للناس على مر العصور.