
« تشويه رسالة الإسلام» ..الحلقة الثامنة والعشرون من الجزء الثاني من كتاب ومضات على الطريق للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
أعزاءنا القراء.. من جديد نواصل معكم نشر الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق، وهو عبارة عن مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، الحلقة الثامنة والعشرون بعنوان “تشويه رسالة الإسلام ” يتحدث فيه المؤلف عن محاولات الهجوم على دين الإسلام، لاغتيال رسالته، مُستهدفة عزل القرآن، وابتداع روايات وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان، مطالبا المسلمين بتصويب مسارهم اليوم، وفق قواعد المنهج الإلهي في الكتاب المُحْكَم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلى نص ما كتب المؤلف.
« تشويه رسالة الإسلام»
لقد كانت قوى الشرّ متربصةً ومستنفرةً للهجوم على دين الإسلام، وحاولت بشتى الوسائل اغتيال رسالته، رسالة الحرية والعدل والمحبة والسلام مُستهدفة عزل القرآن عن اتباع التشريع الإلهي، وإبعاد الناس عن التحلّي بما يدعو إليه من الفضيلة والأخلاق الكريمة، التي تؤسس لانطلاق التقدم الحضاري للأمم، من أجل أن يبقى العرب متخلفين عن ركب الحضارة الإنسانية ويشغلونهم في صراع وحروب دائمة بدأت منذ أربعة عشر قرنًا وما زالت حتى الآن.
وهكذا استدعت تلك القوى شياطينها ومُفكِّريها، ليبتَدعوا أخبارًا مُلفقةً وإشاعات مُزيّفة وأحداثًا مزورةً، واختلقوا الدّعايات المضللة، ونسبوا الكثير من ذلك إلى روايات عن الصحابة واجتهاد العلماء وتفسيراتهم، والتي اعتمدت على أنَّ لكلٍ منهم مصادره الخاصة ومرجعياته.
إنها حرب نفسية شنّها أعداء الرسالة الإسلامية لإبعاد الناس عن الدخول في دين الله ، واتِّباع المنهج الإلهي الذي يدعو الناس لما ينفعهم ويُصلح حالهم، فتكوّنت زعامات دينية متعددة، اتخذت من الروايات مصادر لمساعدة الخلفاء على تمكين سُلطتهم وحماية ملكهم والتقرُّب منهم لتحقيق مصالح مادية، ويقنعون الناس بأنَّ اتباع السلطان يضمن لهم نَيْل رضا الله.
إضافةً إلى ما منحتهم تلك الروايات من مكانة اجتماعية وسياسية تُرضي غرور النفس البشرية، وما توفره لهم من ميزة اجتماعية تجمع لهم المريدين والأتباع ليكونوا طوع أمرهم، ليوظفوهم في خدمة مصالحهم الدنيوية التي تنضح بالأنانية والاستعلاء على الناس، ويقودوا أتباعهم ومريديهم كالقطيع يسيرونهم كيفما يريدون ، ويوجهونهم إلى حيث لا يعلمون بعدما اختطفوا عقولهم وسيطروا على أفكارهم.
فليصُوِّب المسلمون مسارهم اليوم، وفق قواعد المنهج الإلهي في الكتاب المُحْكَم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لنكون بحق الأمة الوسط التي تحمل الشعلة السماوية لتضيء للإنسانية طريق النور والصلاح ولِتَتَّخِذ القيادات الفكرية الإسلامية والدينية موقفًا شُجاعًا يَرجُون فيه القُربى إلى الله -عزَّ وجَل- وتقوى تلبيةً لأمره باتِّباع المنهج الإلهي الذي فيه الخلاص والنجاة من غضب الله يوم الحساب، وفيه منفعة الناس وصلاحهم في الحياة الدنيا.
إنَّ ما يواجهه العالم من إرهاب وخطر عظيم يهدّد الحضارة الإنسانية، ليعيد الإنسان إلى العصور الحجرية الغارقة في الظلم والظلام وباستقراء التاريخ، نرى أمثال تلك الفِرَق كيف أغرقت العالم العربي والإسلامي في الماضي بالدماء والسبي والقتال وارتكبوا الجرائم البشعة، وأذاقوا الناس ويلات الخوف والفزع اعتمادًا واسترشادًا بروايات ما أنزل الله بها من سلطان. فأصاب أمتنا العربية ما أصابها من مأس وأهوال وتدمير للمدن والقرى وتحويل أبنائها إلى لاجئين بالملايين، إنَّ استمرار الفِرق الإرهابية في ممارسة جرائمها إلى اليوم، يفرض علينا جميعًا البحث والتقصي في أسباب هذه الظاهرة بشجاعة ومواجهة الأعراف والتقاليد والفتاوى الشاذة، التي تتعارض مع كتاب الله بصدق وبإخلاص وتقوى الله، وأنَّ ما جرى في الماضي وما يجري اليوم على العرب والمسلمين والعالم أجمع، إنما هو غضب من الله على الناس؛ لأنهم اتبعوا طريق الشيطان ولم يتبعوا هدى الله ومنهج قرآنه تأكيدًا لقوله تعالى:
(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ «١٢٣» وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ «١٢٤») (طه: ١٢٣-١٢٤).
ذلك قول الله وما أنزله على رسوله في كتاب كريم وضع الله فيه تشريعًا يتوافق مع متطلبات المجتمعات الإنسانية في كل العصور، بما يحمله من قيم العدالة والمساواة والرحمة والسلام التي لا يستغني عنها كل عصر حتى قيام الساعة، وقد حفظ الله كتابه بقوله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ «٩») (الحجر).
يقابل ذلك روايات اختلف الناس في حقيقة مصادرها وأهدافها، وتُعد بعشرات الآلاف من الأقوال والروايات واستحالة التأكد من مصداقيتها بعد مرور عشرات القرون، فاستطاعت أن تحتل تلك الروايات المصدر الرئيسي للتشريع في العالم الإسلامي.
ونتج عن ذلك استبعاد كتاب الله الذي أرسله الله للناس كافة ليكون لهم هُدىً ونورا يستمدون منه تشريعاتهم، ويكون المرجع الوحيد للتشريع، يستنبطون منه ما يساعدهم من تشريعات لتنظيم أمورهم الدنيوية ويعينهم على عبادة الله وطاعته ليغفر لهم ذنوبهم ويدخلهم جنات النعيم.
فالسؤال يطرح نفسه كما يلي:
أولا: ما هي المهمة التي كلف الله سبحانه بها رسوله.
الإجابة: لقد كلَّف الله سبحانه رسوله بأن يُبلغ رسالة الإسلام للناس جميعًا تأكيدًا لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ «٦٧»)(المائدة)
ثانيًا: ما الذي أنزل الله على رسوله الكريم (ﷺ)؟
الإجابة: قوله تعالى: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ «٢» إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ «٣») (طه: ۲-٣).
ثالثًا: ما الذي سيُبلغه الرسول للناس جميعًا؟
الإجابة: قول الله سبحانه وتعالى: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ «٤٥») (ق).
وقوله تعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا «٩») (الإسراء).
رابعا: فما جزاء الذين انصرفوا عن القرآن وأعرضوا عن تلاوته والتدبر في آياته؟
الإجابة: قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ «١٢٤») (طه).
خامسًا: أسلوب الدعوة وكيفيتها والتي أمر الله رسوله بتبليغ الناس بها؟
الإجابة: في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «١٢٥») (النحل).
إذن، القرآن هو الوثيقة السماوية والخطاب الإلهي من خالق الناس مُوجّهة للناس جميعًا يدعوهم للهدى والخير لما ينفعهم في الحياة والدنيا والآخرة.
إنَّ الفِرَق الهدامة التي تقترف الآثام وتستبيح الأوطان، وتسرق ثروات الناس وتستعبد البشر ، وتحرق الأحياء وتقتل الأبرياء، وترتكب الجرائم وتقتل النفس البريئة فقد بَاءَ أتباعها بغضب الله واستحقوا عقابه، وأنَّ الله لا يُصْلِح عمل المفسدين. وقد وصفهم الله بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «٢٥») (الرعد).
وللخروج من هذا المأزق الكارثي، الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية، يتوجب على جميع العلماء المخلصين والمفكرين والمثقفين أن يتحملوا مسئولية تاريخية عظيمة، وذلك بأن يعتمدوا الخطاب الإلهي في القرآن الكريم، المرجع الوحيد الذي يُمكن لهم به أن يستنبطوا منه التشريعات التي تتطلبها مجتمعاتهم. فيؤسسون لمنهج يرتقي بالمسلمين في عبادتهم ويترجمون آيات الفضيلة والأخلاق في سلوكهم ويصححوا صورة الإسلام للناس، ويُبرزوا عظمته في قِيَم الرحمة والعدل والسلام والتعاون بين البشر على أساس أن الدين عند الله الإسلام، وأنَّ الوطن للجميع بكل دياناتهم ومذاهبهم آمنين مطمئنين فيه، لا فرق بينهم في اللون والعقيدة واللغة.
لذا أصبحت المرجعيات المختلفة والطوائف المتعدّدة، عاملا رئيسيًا أدى إلى انقسام المسلمين باتباعهم مذاهب شتى، تبنت كل طائفة خطابًا دينيًّا يتفق مع أهدافها في خدمة مصالحها الدنيوية، للوصول إلى سلطة أو تحقيق فوائد مادية لتجعل لها مكانة مميزة في مجتمعاتها.
فلا إكراه في الدين، ولا وصاية لأحدٍ على غيره إلا التعامل بالحسنى، والله يفصل بين الناس يوم القيامة، تأكيدًا لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «١٧») (الحج).
وقولِهِ تَعَالَى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢٩») (الكهف).
وللتأكيد بأنَّ الخالق -سبحانه وتعالى- أعطى عباده الحرية المطلقة في اختيار العقيدة التي يؤمنون بها والدين الذي يتعبدون به بقوله تعالى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٩٩») (يونس).
فإنَّ هذه الحرية مُصانةٌ منذ خُلق آدم أول البشر، والذي مُنِح حقَّ الاختيار، عندما اقترب من الشجرة التي كانت ممنوعةً عنه. على الرغم من أنَّ الله قد أنذره بألّا يقترب من الشجرة فسيكون من الظالمين، إنَّ هذه الحرية هي التي تُتيحُ للإنسان الإختيار بين الخير والشر وهو وحده يتحمل مسئولية اختياره ووسيلته في ذلك هي العقل، ليُفرِّق بين الحق والباطل ويكتشف الحقيقة والوهم بين الروايات والإسرائيليات، وبين الخطاب الإلهي كِتابُ الله سبحانه في قرآنه الكريم الذي أنزله على رسوله الكريم هدايةً لعباده ونوراً يضيء لهم الطريق المستقيم والله وحده -سبحانه وتعالى- سيفصل بين الناس جميعًا يوم الحساب.
ولذلك أسأل كل مَنْ وضع نفسه في صدارة علماء الدين ووعاظه وشيوخه ودعاته، كما أسأل كل من تصدّى للفتوى والتفسير ما يلي:
أولا: لماذا تمّت مخالفة أوامر الله بكل التحدي والصلف والعناد في دعوته لعباده بالتدبُّر في آياته وسمحوا للروايات أن تطغى على الآيات لتحقيق مصالح سياسية ومادية واجتماعية؟
مهدت الطريق لتفريق المسلمين فِرَقًا وطوائف وأوجدت حالة صراع دائم بينهم وجدال عنيف وصدام فلسفي إلتبس فيه الحق بالباطل ووَلّد الأحقاد وتسبب في الاقتتال بينهم.
ثانيًا: لماذا أغفل المسلمون مرجعية القرآن في استنباط التشريعات وتنظيم العلاقة بين الله وعباده، والتي وضع الله لها في تشريعه قواعد العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، مبنية على العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان في حرية العقيدة وحرية العمل وحق الحياة وكسب الرزق وتحقيق الأمان لأفراد المجتمع دون تمييز؟
ثالثًا: لماذا الدفاع المستميت عن الروايات كلّما ذُكرت آيات الله وما تحمله من تصويب للخطاب الديني، وتقويم المصطلحات والمفاهيم الضالة التي شوّهت سماحة الإسلام ورحمته ودعوته للعدل؟ وهل نزل جبريل (عليه السلام) على أولئك الأئمة بكُتُب سماويّة؟
أم أنها إجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب وليس لها قدسية على الإطلاق. ولن يتم سؤال الإنسان عنها إذا اتَّبعها يوم الحساب أم لم يتَّبعها.
رابعًا: لماذا لم يدرس علماء المسلمين وفقهائهم الأحداث التاريخية الكارثية، التي وقعت بعد وفاة الرسول (ﷺ) حتى اليوم، لمعرفة المُتسبّب الرئيسي في كل الفتن وما أورثته لنا من صراع مستمر وقتال مُدمّر يأكل الأخضر واليابس حتى اليوم؟
خامسًا: ألم يتّهمكم رسول الله، فيما تزعمون وتقدّسون ما نُسِبَ إليه من روايات تتناقض مع ما حمله من رسالة الله للناس ويشتكيكم إلى الله يوم القيامة؟ عندما هجرتم القرآن واستبدلتموه بالروايات والإسرائيليات المُلفّقة والمشبوهة، كما جاء في القرآن العظيم قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا «٣٠») (الفرقان).
فماذا سيكون موقفكم يا علماء المسلمين أمام الواحد القهار يوم الحساب، وكيف سيكون دفاعكم عن عدم تدبّركم لآيات القرآن ومن يحميكم من غضب الله عليكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
سادسًا: ما رأيكم في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ «٦») (الجاثية).
يؤكد لنا الله -سبحانه وتعالى- في الآية المذكورة، استفسارًا استنكاريًا أي حديث يعلو على آيات الله التي أنزلها الله على رسوله بالحق مهما كان مصدرها، ألم تكتمل بالآيات رسالة الله وخطابه الإلهي للناس، عندما تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حجّة الوداع قوله تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا «٣») (المائدة).
ألا تعني الآية المذكورة أعلاه بأنَّ الله قد أكمل رسالته للناس وارتضى لهم الإسلام دينًا، ألم يدعُهم للتفكر والتدبر في آياته التي تؤدي بهم إلى الإيمان، ويستيقنوا بأن لا حديث بعد كلام الله وآياته، لذلك فقد جاء الخطاب الإلهي يخاطب العقل، ولتحرير الإنسان من العبودية والأصنام وأشباه الأصنام، وتحرير الإنسان من الكهنة والأحبار وشيوخ الدين الذين احتكروا فهم القرآن، وسيطروا على عقول الناس وجعلوا أنفسهم أوصياء على الناس، ووكلاء عن الله وأوصياء على البشر، يُكفّرون من يريدون ممن يكرهونهم ويحاسبونهم على عقائدهم، ويمنحون الجنة لمن يتبعهم ومن يزيد في نفاقهم وتقديسهم.
فليحرّر الإنسان عقله للتفكّر ويطلقه بكل الحرية للتدبُّر في كتاب الله، ويحيا حياته بما أمر الله له من كرامة ليعيش هانئًا مطمئنا برعاية الخالق له يحفظ له صحته ويعينه على تأمين رزقه، يعامل الناس بالمحبة والتراحم يساعد فقيرهم ويعين المظلوم ويزور مريضهم وينشر السلام أينما حل وأينما رحل.
يشارك مجتمعه السّراء والضّراء، فإذا ما اتبع الإنسان ما أنزل الله للناس من آيات كريمة وتدبَّر في مراد الله منها لمنفعة البشر، فإنَّ محصلة تفكيره ستعينه على اتباع منهج الله في الحياة الذي يحقق له الأمن النفسي.
ويبقى متصلًا بنور الآيات الكريمة تضيء له حياته وتمنحه السعادة والتفاؤل والأمل، ويرتقى بأخلاق القرآن وفضائله محققًا للمجتمعات الإنسانية السّلام والعدل والرحمة والحرية، كما قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ «٣») (الأعراف).
إنه أمر من الله -جل وعلا- لرسوله بأن يُبلّغ الناس جميعًا بألا يتَّبعوا غير كتاب الله وأنْ يَتدبروا آياته وما فيها من عِبر وتعاليم، وقيم وتشريعات تُنظم العلاقات الاجتماعية بين الناس على أساس التعاون والمحبة والعدل لبناء مجتمعات الأمن والسلام. تعيش في وئام وتسعى للخير، تتحد لدفع الضرر، وتتبع الله فيما أمر، تنفيذًا لأمره تعالى في سورة المائدة الآية الثانية حيث جاء في سياقها:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ «٢» (المائدة ).
إنَّ العلاقة بين الله والإنسان علاقة تعاقدية تعبدية أساسها العقد المقدس وهو القرآن الكريم، بكل تشريعاته وتعليماته والأوامر الإلهية من محرمات وتوجيهات في العلاقات الإنسانية والمعاملات والإلتزام بكامل المنهج الذي بينته الآيات.
وأن الشهادتين بأنه لا إله إلا الله وأنَّ محمدا رسول الله، لا تكفي بأن يصبح الإنسان مسلمًا كاملًا إلا بإلتزامه بتطبيق العقد المقدس وعدم الإخلال بأي بند من بنوده مما يعرضه للعقاب الإلهي وأنّ التزامه بكامل شروط العقد المقدس يؤمن له حياة طيبة ، وجنة نعيم عرضها السموات والأرض خالدًا فيها.
وإنَّ كل من يُخلّ بالعقد المقدس ولا يلتزم بأوامر الخالق ويتقيد بتطبيق الفضيلة واحترام التشريع الإلهي، فقد تخلّى عن وفائه بالعهد، يصبح في هذه الحالة إخلالاً بالعقد من قِبَل الإنسان، وبالتالي فإنَّ الله – سبحانه سيحاسبه على ذلك لمخالفتة شروط العقد، التي تمنعه من الإنتقام والحسد والغضب وخيانة الأمانة وأكل أموال الناس بالباطل والتنابز بالألقاب وكثير من السلوكيات السلبية التي أمر الله باجتنابها.
ولو طبق المسلم بنود العقد الإلهي لوجد نفسه في سعادة دائمة لا يحزن لمن يسيئ إليه، ويكون في قمة الرضى إذا عفى عن المسيء إليه وسعيدًا إذا كظم غيظه متبعًا قوله تعالى:
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ـ«١٣٤») (آل عمران).
ولو طبق المسلمون العقد المقدَّس (القرآن الكريم) بحذافيره، لاستطاعوا أن يُنْشِوءا المدينة الفاضلة على الأرض، وحينها لن تجد ظالمًا أو مظلومًا أو فقيرًا أو محرومًا أو بائسًا أو مكلومًا، وينتشر العدل بينهم ، وأغلقت المحاكم أبوابها ، واختفت أجهزة الأمن والشرطة، ونزلت البركة وعمَّ الناس الخير والمحبة والتعاون، وأصبح الإنسان ربّانيا كما يريده الخالق. ولكن للأسف أضاعوا منه خارطة الطريق، أعداء الحياة وشياطين الإنس الذين يعبدون السلطة والمال.