«أسباب التفكك الأسري» (1)..الحلقة الخامسة والعشرون من الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
أعزاءنا القراء.. من جديد نواصل معكم نشر الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق، وهو عبارة عن مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، وجاءت الحلقة الخامسة والعشرون بعنوان أسباب التفكك الأسري وهي الحلقة الأولى من المقال، وتحدث فيها المؤلف موضحا أن ما شَرَّعه الله في كتابه الكريم بشأن الزواج والطلاق يستهدف حماية الأسرة، لاستكمال مهمتها في بناء المجتمع، والمفروض ألا يكون بالسهولة التي اعتمدتها المؤسسات الدينية على أساس الموروثات التي ترتب عليها تشتيت الأسر وتشرُّد الأطفال، مشيرا إلى أنَّ الخلل الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية ناتج عن ابتعاد الموروث الفقهي عن دلالات كتاب الله، بناء على الموروث ، وإلى نص ما كتب المؤلف.
أسباب التفكك الأسري(1)
إِنَّ تَبِعَات الموروث من اجتهادات بشرية اعتمدت على الروايات دون اعتبار للتشريع الإلهي في القرآن الكريم، فيما يتعلق بالعلاقة الزوجية من عقد قَرَانِ وطلاق واعتماد الموروث، أصبح أمرًا مُسلَّمًا به ومقدسًا. عندما اتخذوا الطلاق الشفهي قرارًا يُعتمد تنفيذه، وضربوا بالتشريع الإلهي عرض الحائط.
حيث أنَّ الله سبحانه وضع في تشريعه قواعد العلاقة التعاقديَّة بين الزوجين، كطرفين اتخذ كل منهما قرارًا بإرادته المستقلة للدخول في شركة وفق القواعد والشروط التي وضعها التشريع الإلهي، لتتحقق لهم الحياة المستقرة المبنية على المودة والرحمة والذي جعل في أحكام العلاقة الزوجية قواعد لتحصين الأسرة من الانفصال الذي يتسبب بضياع الأطفال وتشرُّد أفراد الأسرة، وأنَّ التشريع الإلهي ومقاصده المحافظة على أسرة مستقرة آمنة تؤدي واجباتها نحو المجتمع بإعداد أبنائها بتربية أخلاقية وصحية، ومساعدتهم في التوجّه التعليمي ورعايتهم بالتشجيع والرعاية، ليحققوا التفوق العلمي لخدمة وطنهم.
ومن جرَّاء الطلاق الشفهي حدوث التفكك الأسري الذي أنتج كوارث اجتماعية وضياع للأبناء، وما يترتب عليه من أمراض نفسية تؤدي إلى خلل في السلوك الاجتماعي، بل يتعدى ذلك إلى ارتكاب الجرائم المختلفة.
وللأسف مازالت تلك القواعد التي تتعارض مع تشريع القرآن الكريم، وتتناقض معه جُملةً وتفصيلا، وبالنظر لتشريع القرآن العظيم نجده حرص على حماية العلاقة الزوجية والمحافظة على الأسرة كما يلي:-
أولا : قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا «١») (الطلاق).
مما يعني أنّه إذا عزم الإنسان وعَقَدَ النّية على الطلاق لا يتم الانفصال الكامل إلا بعد العدة، وهي ثلاثة أشهر.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ «١») (الطلاق). مما يعني أن يتم الانفصال بالاتفاق بين الطرفين بنفوس راضية، كلّ منهم مقتنع بالقرار الذي اتخذه، ومن هنا يضع الله القاعدة الذهبية كشرط أساسي لاستمرار العِشرة أو الإنفصال،
حيث يقول سبحانه: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «٢٢٩») (البقرة).
وأسأل ما يلي:
– هل التشريع الإلهي عندما وضع قاعدة (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) يعني أنَّه بمجرد أن يلفظ الرجل كلمة الطلاق يحدث الإنفصال؟
أو أنَّ ذلك يعني أنَّ الانفصال يتم بالتفاهم واقتناع الطرفين بأنَّ الفراق فيما بينهما يحقق مصلحتهما ، كما يتم ترتيب أمور كل منهما ، من حيث رعاية الأطفال وتربيتهم دون اللجوء للمحاكم الشرعية ومن حق كل منهما رؤية أبنائه والإطمئنان عليهم، والاستمرار في تلبية احتياجاتهم بالمعروف والإحسان.
ذلك ما يريده الله لخلقه من خير وتسامح ومودة، لينشأ الأبناء في ظل رعاية الطرفين حتى في حالة الانفصال، لبناء الشخصية الإسلامية السليمة بتربية صحية بخلق مجتمع التعاون والتكافل،
والله -سبحانه- يذكرهم بقوله: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «٢٣٧») (البقرة)
ثانيًا: أمر الله -تعالى- أن تكون المعاشرة بالمعروف وصيةً من الله ورحمةً بالنساء حيث يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا «١٩») (النساء).
ثالثًا: ما شَرَّعه الله في كتابه الكريم بشأن الزواج والطلاق يستهدف حماية الأسرة، لاستكمال مهمتها في بناء المجتمع، والمفروض ألا يكون بالسهولة التي اعتمدتها المؤسسات الدينية على أساس الموروثات التي ترتب عليها تشتيت الأسر وتشرُّد الأطفال، وأنَّ أحكام الطلاق الذي يريده الله -سبحانه- تكون صارمة تستهدف الحرص على استمرار الحياة الزوجية حفاظا على الأسرة.
إذن من أين أتوا بتلك الفرية (الطلاق الشفهي) وما خلفته من مآس لمئات الآلاف من الأُسر.
رابعا: لو تم الالتزام بالمفهوم العاقل والحكيم لأحكام المولى -عز وجل- في تشريعه التي بينها القرآن الكريم، لانخفضت نسبة الطلاق كثيرًا جدًا عما هي عليه الآن، ولما رأينا ما نراه من مآسي إجتماعية ناتجه عن ذلك، من تفكُك للأسرة وضياع الأبناء، وآثار التحولات النفسية التي قد تتسبب في الإضرار بأنفسهم أو الإضرار بالغير، ولا أستبعد أنَّ كثيرًا ممن التحقوا بالمنظمات الإرهابية يعانون أمراضًا نفسية، تسبب فيها الزوجان ولم يرع كل منهما حقوق أبنائه.
خامسًا: إنَّ الخلل الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية ناتج عن ابتعاد الموروث الفقهي عن دلالات كتاب الله، فأحكام فضل الزوجين عن بعضهما دون مبرر حقيقي أو أسباب قاهرة، أدت إلى أن (التلفظ بالطلاق) يتم به تفكيك الأسرة واستعمال الرجل لسلاح الطلاق، كوسيلة للضغط على المرأة ،وإذلالها وما يترتب على ذلك من مشاكل إجتماعية وأخلاقية لا تتفق مع شريعة الله السامية.
سادسا: إنَّ ما بُني عليه الموروث والإجتهادات البشرية، معتمدين على الروايات على لسان الرسول (ﷺ)، بالرغم من علمهم أنَّ الرسول لم يأمره الله بالتشريع، بل أمره_سبحانه بالتبليغ في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ «٦٧») (المائدة)
والله -سبحانه- لم يُنزِّل على رسوله غير القرآن الحكيم الذي تضمَّن التشريع والفضيلة والقيم والأخلاق، وأمره بأن يعلمهم القرآن وما احتوى فيه من حكمة وبيان، وقوله تعالى:
(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ «٣٨») (الأنعام)
ولو تتبعنا الفتاوى التُراثية والاجتهادات البشرية، وخاصةً فيما يتعلق (بالطلاق الشفوي)، فلا يوجد نص قرآني على الطلاق يشرع ما ذهبوا إليه، إنَّما التشريع القرآني فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية وإستمرارية الحياة الأسرية ومسؤولية الزوجين عن الأطفال ورعايتهم، أكد على حماية الأسرة واتخاذ كافة الإحتياطات الضرورية، في استباق لما قد يحدث من خلاف يؤدي إلى الطلاق.
سابعا: يقول الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا «٣٥») (النساء).
إنَّ مقاصد الآية الكريمة التحري والتريث في الطلاق، حرصًا على الحياة الزوجية وتمكينا لإصلاح ذات بينهما، وهذا التشريع الإلهي قد تم إقصاؤه في مئات الآلاف من حالات الطلاق، أدت إلى تشوهات خُلقية وإجتماعية في المجتمعات الإسلامية، نتيجة للتفكك الأسري وما أحدثه من آثار سلبية.
ثامنًا: للمحافظة على حماية الأسرة وإزالة كل الأسباب التي تؤدي لتفككها وخطورة ذلك على الأمن الوطني، حيث أنَّ الأسرة اللبنة الأولى لأي مجتمع، فإن صلحت صَلُحَ المجتمع وإن فسدت فسد المجتمع دينًا وخُلُقًا وقِيَمًا، وعليه تمشّيًا مع مُراد الله لخلقه وما اقتضته رحمته سبحانه وتعالى في تحديد الأسباب والشروط التي تستهدف تقويم الأسرة وحمايتها من التفكك.
وبما أنَّ الله -سبحانه- أعطى الحرية للناس بأن يضعوا من القوانين والإجراءات التي تستند إلى مراد الله ودلالات آياته، بما يكفل تطبيق شرع الله الذي جاء به سيدنا محمد (ﷺ) في كتابٍ كريم.
ونستكمل الجزء الثاني من «أسباب التفكك الأسري» في الحلقة القادمة بإذن الله