
حقيقة «الجهاد» في القرآن..الحلقة الثامنة عشرة من الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
أعزاءنا القراء من جديد نواصل معكم نشر الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق، وهو عبارة عن مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، وجاءت الحلقة الثامنة عشرة بعنوان” حقيقة الجهاد في الإسلام” موضحا أن العديد من الآيات في القرآن الكريم، ذُكِرَ فيها الجهاد، ومعناها منصرف إلى نوعين: أحدهما القتال بالسيف أو غيره من وسائل القتال الأخرى في حالة الدفاع عن النفس، والنوع الثاني هو تَحَمُّل المشاق في سبيلِ الدِّين، والصبر على أعبائِهِ، ومجاهدة النفس وكبحُ جِماحِهَا عن السقوط في المعصية، والتحكم بالنَّفس الأمارة بالسوء في سعي الإنسان للاعتصام بكتاب الله وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، والإقدام على التقرّب إلى الله بالعمل الصالح من عبادات وإنفاق وصدقات وتقديم يد المساعدة للمحتاج والفقير وابن السبيل.
مؤكدا أن الجهاد ليس دعوة للاعتداء على الناس، بل هو إيصال رسالة الإسلام لخير الناس وما ينفعهم، والسعي الدؤوب بالفكر والكتاب والوعظ لنشر رسالة المحبة والتعاون والسلام، لإعلاء قيمة الأخلاق والقِيَّم النبيلة وإلي نص ما كتب المؤلف.
حقيقة «الجهاد» في القرآن
لقد وَرَدَ العديد من الآيات في القرآن الكريم، ذُكِرَ فيها الجهاد، ومعناها منصرف إلى نوعين: أحدهما القتال بالسيف أو غيره من وسائل القتال الأخرى في حالة الدفاع عن النفس، كما قال سبحانه:
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «١٩٠») (البقرة).
لأن الله سبحانه لم يأمر المسلمين بقتال الناس حتى يدخلوا دين الإسلام، تأكيدًا لقوله سبحانه:
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٩٩») (يونس).
والآية الأولى التي تذكر الجهاد في قوله تعالى:
(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا «٥٢») (الفرقان).
والتي تعني جاهد الكفار بالحوار والمنطق بآيات القرآن الكريم.
والآية الثانية قوله تعالى:
(وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ «٦») (العنكبوت).
إنَّ كلمة الجهادِ، كَمَا وردتْ في القرآن الكريم، جاءتْ حاملةً معناها وتفسيرها، فالجهاد هو بَدَلُ الجُهدِ والطَّاقةِ وتَحمّلُ المشقة في سبيل تحقيق أوامر اللَّهِ سُبحانَهُ في مجاهدة النفس، وتطويعها لتطبيق مبادئ المنهج الإلهي الذي يرتقي بشخصية الإنسان في عباداته وأخلاقياته، والالتزام في ما حرمه الله، والتغلب على هوى النفس الأمارة بالسوء، والتي يستدرجها الشيطان إلى طرق الغواية.
هذا الجهاد يبدأ من اليوم الأول لِوَعْي الإنسان بضرورات الحياة الكريمة، وما تتطلّبها من أشكال مختلفةٍ في بَذْلِ الجهد المخلص في التمسّك بتكاليف العبادات، وتأدية المشاعر الدينية وترجمتها إلى سلوك يومي باتباع المنهج الإلهي في السلوك الإسلامي الذي أمرنا الله باتباع القيم النبيلة، وممارستها مع الناس جميعًا، وفي مقدمتها الرحمة والعدل والإحسان، وعدم الإعتداء على حقوق الناس، ونشر السلام ليتحقق الأمن والاستقرار.
والآية الثالثة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «٦٩») (العنكبوت).
وتعني الآية: الذين يعملون ما أمرهم به الله من القيام بكافة تكاليف العبادات وأعمال الخير والدعوة في سبيل الله، كما يلي:
– قالَ تَعَالَى: (عُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «١٢٥») (النحل).
والآية المذكورة تبيّن الجهادَ بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة، للتعريف برسالة الإسلام التي تدعو للأمن والسلام والتعاون والعدل والرحمة بين الناس، التي يتحقق بها الاطمئنان للنفس وتحيطها السكينة لتمنح الإنسان شعورًا بالإيمان بقوة الله وقدرته، وتقوِّي من عزيمته، وتدفعه للعمل الصالح، وما يتحقق به من تأمين رزقه ورعاية أسرته وأمنه في حياته الدنيا، ليعيش الحياة هانئًا وسعيدًا ، مطمئنا برحمة الله وبما ييسر له من خير ويكشف عنه من ضرر يعده الله بقوله سبحانه:
1- (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «١٠٧») (يونس).
2- وقَالَ تَعَالَى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ «٩٦») (المؤمنون).
3- وهنا الجهادُ بالدَّفع بالقولِ الحَسَن، حيث يتطلب هذا الأمر مغالبة النفس وكبح جماحها والسيطرة عليها في رد الفعل، وهذا أشد أنواع الجهاد لكي يتجنب مضاعفات الموقف وما سيترتب عليه من إشكاليات يعلمها الله.
4 – وَقَالَ تَعَالَى:(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «٣٤») (فصلت).
وهذه الآية تستدعي مجاهدة النفس بقوّة الإيمان، وتطويعها لتستقبل السيئة بالحسنة، ويتحول لديها ردُّ الفعل الغاضب إلى ردّ حليم يحمي الإنسان ممّا يترتب على عدم السيطرة على النفس من مضاعفات لا يحمد عقباها ، وتكون له القدرة باستيعاب الطاقة السلبية، لتتحول بإيمانه بالله إلى طاقة إيجابية تحميه من التشاجر الذي قد يؤدي إلى مشاكل جمة وإلى صراع بينه وبين غريمه.
إنَّ الجهاد هو تَحَمُّل المشاق في سبيلِ الدِّين، والصبر على أعبائِهِ، ومجاهدة النفس وكبحُ جِماحِهَا عن السقوط في المعصية، والتحكم بالنَّفس الأمارة بالسوء في سعي الإنسان للاعتصام بكتاب الله وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، والإقدام على التقرّب إلى الله بالعمل الصالح من عبادات وإنفاق وصدقات وتقديم يد المساعدة للمحتاج والفقير وابن السبيل.
يتضح لنا مما سبق، أن الجهاد ليس دعوة للإعتداء على الناس، بل هو إيصال رسالة الإسلام لخير الناس وما ينفعهم، والسعي الدؤوب بالفكر والكتاب والوعظ لنشر رسالة المحبة والتعاون والسلام، لإعلاء قيمة الأخلاق والقِيَّم النبيلة محققة صياغة شخصية المسلم التي تتحلى بالأمانة، وحب الخير واجتناب الظن السيء، والتجسس على الناس، والتواضع، والتراحم، والوفاء بالعهود والعقود، والتعاون على البر والتقوى والإصلاح بين الناس ليتحقق في المجتمعات الإنسانية بناء المواطن الصالح الذي ترتقي به الأمم.
فالله سُبحانَهُ مِن رَحمتِهِ ُيريدُ السلام لعباده وأن يعيشوا مُتحابّينَ ومتعاونين، حيثُ يَقولُ سُبحانَهُ وَتَعَالَى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ «٢») (المائدة).
الجهاد على تكاليف العبادات
إنَّ تكاليف العبادات بالبُعدِ عن المحرّمَاتِ، تحتاجُ إلى مُجَاهِدَةِ الرَّعْباتِ الغَرائزية وما تحمله مِنْ نَوازِعَ مُختلفة، حيث تميل النفسُ كثيرًا للمعصية، والشر والخداع والظلم والخيانة وعدم الوفاء بالعهودِ واستباحة حُقوقِ الناسِ، وقَتْلِ النفس التي حرّم الله إلّا بالحق، والغيبة والنميمة ونَشْر الإشاعاتِ ابتغاء الفتنة.
إن كلَّ تلك الصفاتِ المكروهة تتحكّم في غريزة النفس البشرية ، وجهادُها يتطلّبُ عَزيمة إيمان وصبر، وهو الجهاد الحقيقي لدى الإنسان هو الجهاد بين النفس الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة.
وقبل كلّ ذلكَ تَقوى اللهِ ، حَيثُ إنَّ مواجهة النفس وكبح جماحها، هو صراع بين الحق والباطِلِ يكاد يكونُ أشدَّ قوةً مِن معاركِ القتال، فالإنسان يحاربُ عَدوًا بِداخِلِه يساعده في التغريرِ بهِ، شَيطانُ تَوعَدَ الإنسان أمام الله عند خَلق آدمَ عندما قالَ:
(قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٨٢») (ص).
وأيضا: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «١٦») (الأعراف).
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ «١٧») (الأعراف).
وهذه الآية تُحَذِّر الناس من إغواء الشيطان لهم، وأن يكونوا يقظين حتى لا يقعوا في المحظور فينالوا عقابهم يوم الحساب.
وقد حذرنا الله سبحانه من الشيطان بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ «٦») (فاطر).