فذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين…الحلقة الثانية عشرة من الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق للمفكر العربي علي محمد الشرفاء
أعزاءنا القراء من جديد نواصل معكم نشر الجزء الثاني من كتاب ومضات علي الطريق، وهو عبارة عن مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي للمفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، وجاءت الحلقة الثانية عشرة بعنوان”فذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين” ويتحدث المؤلف عن أن مصطلح (قطعية الثبوت والدلالة) إنما يعني التوقف عن التدبر في كتاب الله والتفكّر في آياته ومعرفة مقاصد الخير فيها للناس جميعًا،.مبينا أن قاعدة (قطعية الثبوت والدلالة) فرضت ستارا حديديا على العقل ومنعته من التدبر فى آيات الله ومعرفة مقاصده لخير الإنسان، وفيها مخالفة لأوامر الله سبحانه ، بدعوة الناس للتفكر في قرآنه والتدبر في بيانه، حيث يتصادم مع أمر الله، بالبحث في آياته عن مقاصد الخير للإنسانية كلها، لوضع تشريعات تحقق للإنسان ما يريده لعباده من خير وصلاح في الدنيا والآخرة.، وإلي نص ما كتب المؤلف.
فذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
إن مصطلح (قطعية الثبوت والدلالة) إنما يعني التوقف عن التدبر في كتاب الله والتفكّر في آياته ومعرفة مقاصد الخير فيها للناس جميعًا، فمن هو ياترى الذي أعطاه الله سبحانه السلطة التشريعية لكي يقرر هذا المبدأ الذي يعطل وظيفة العقل الذى كرَّم الله به الإنسان؟.
والله سبحانه يأمرنا بالتدبر في آيات كتابه واستنباط ما يمكن أن يكون في صالح الناس من التشريعات وفقًا لمعطيات التطور في المجتمعات، فالله أمر المسلمين في كل عصر أن يستنبطوا من التشريع الإلهي ما فيه صلاحهم، فلم يجعل الله سبحانه على الناس وكيلًا عنهم أو وصيًا على أفعالهم، فهو المُتَكفّل وحده بمحاسبتهم، قال تعالى في كتابه الكريم يخاطب رسوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ «١٠٧») (الأنعام).
فمن عيَّن المؤسسات الدينية وصيا على الإسلام ووكيلا عن الله في الأرض؟ بالرغم من أن الله سبحانه حدد لرسوله مسئوليته في دعوة الناس للإسلام منها قوله تعالى:(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا «٤٥») (الإسراء).
ولماذا يظل المسلمون مُرتَهنين لاجتهادات وأفكار من سبقوهم؟ والله يبين للناس في آياته بقوله عنهم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ «١٣٤»﴾ (البقرة).
إن ما تعنيه قاعدة قطعية الثبوت والدلالة التي فرضت ستارا حديديا على العقل ومنعته من التدبر فى آيات الله ومعرفة مقاصدها لخير الإنسان، مخالفة أوامر الله سبحانه ، بدعوة الناس للتفكر في قرآنه والتدبر في بيانه، حيث تتصادم مع أمر الله، بالبحث في آياته عن مقاصد الخير للإنسانية كلها ، ووضع تشريعات تحقق للإنسان ما يريده لعباده من خير وصلاح في الدنيا والآخرة.
كما يعني مصطلح (قطعية الثبوت والدلالة) المستبد منعا لفريضة إلهية في توظيف العقل في خدمة الإنسان وأن جزاء من يمنع فريضة إلهية عند الله عذاب عظيم.
وحين يأمرنا الله بالتدبر في قرآنه فهو لا يخاطب فئة مميزة ممن صنعوا لأنفسهم مكانة عالية في المجتمعات الإنسانية، ليجعلوا من أنفسهم المرجعية الوحيدة لدين الإسلام ويُفوَضوا في التدبر في كتاب الله عن الناس جميعا.
إنما يخاطب الله سبحانه العقول للبحث في كتابه عن مراد الله في تشريعاته، لخير الإنسانية جمعاء، وعلى رأسها الرحمة والعدل والحرية والسلام والإحسان؛ لفهم روح النَّص فهما دقيقًا ليتم استنباط التشريعات والتعليمات من مراد الله من آياته والتي هي كلها تصب في مصلحة الإنسان للدنيا والآخرة.
هل نريد للتفكير أن يتوقف عند القرون الأولى؟ ، والمسلمون مطالبون بالتدبر في كتاب الله واستنباط التشريعات التي تتناسب مع تطور العصر دون اعتداء على النص بل البحث الجاد والواعي المُدرك لمقاصد النَّص، وتأكيدًا لأوامر الله بالتفكر والتدبر في آياته، ومخاطبته للعقول، في قوله سبحانه لما يلي:
1- )أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا «٢٤») (محمد).
2- (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٤٦») (الحج).
3- (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «٢٤٢») (البقرة).
4- (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «٤٢») (النحل).
5- (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «٢١») (الحشر).
6- (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ «١٩٠» الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ «١٩١») (آل عمران: ۱۹۰ – ۱۹۱).
7- (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «٣») (الرعد).
8-(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «٢١») (الروم).
ذلك غيض من فيض فيما أورده القرآن الكريم من آيات تدعو للتفكر في كل ماخلق الله في السماوات والأرض ، وأنها فريضة على كل مسلم ليقرأ القرآن ويتفكر في آياته، ويتدبر مقاصد أحكامه؛ ليستنبط منها تشريعاته التي تحقق له الأمن والعدل والتنمية والسعادة في الدنيا والآخرة. ليكون العدل ميزان الحقوق والإنصاف، فلا مظلوم يشكو حقه المغتصب ولا ظالم تدفعه النفس الأمارة بالسوء للإعتداء على الناس واغتصاب حقوقهم، سواء كان حق الحياة أو حق المال أو حق الأرض ليعيش الناس أحرارًا فى تقدم واستقرار.
هل تريد المؤسسات الدينية في العالم العربي أن تكون وصية على العقول وتحرمهم من التفكر والتدبر في كتاب الله، وتمنعهم من أهم فريضة أمرهم الله بها للتعرف على دينهم والتزاماتهم العبادية والتشريعية والأخلاقية، وهل أصبح لديها سلطة إلهيَّة تمنحها التفرد في فهم النص القرآني وتفرض مفاهيمها على المسلمين.
والله سبحانه يخاطب رسوله (ﷺ) بقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ «١٠٨») (يونس).
ويقول سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ «١٠٤» (المائدة).
وقوله تعالى: ( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ «٣») (الأعراف).
وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا «٥٧») (الكهف).
وعندما يخاطب الله سبحانه الناسَ فلا يخاطب فئة مميزة منهم إنما يخاطب عقول الناس جميعًا وقوله سبحانه: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٤٦» (الحج).
ولقد وضع الله سبحانه قاعدة لدعوة الإسلام بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ «١٢٥» (النحل).
وقوله: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «٩٩») (يونس).
فالناس أحرار في إختيار عقائدهم دون إكراه وحسابهم عند خالقهم يوم الحساب.
لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تمنع العقول من التفكر والتدبر، فريضة الهيَّة ونعمة ربانية، أمر الله الناس أن يسبحوا في ملكوته ويفكروا في خلقه ومخلوقاته بالعلم والإبداع وتوظيف النتائج التي يصل لها العقل في خدمة الإنسانية، دينا وعملا ومخترعات وآليات لترتقي بهم لحياة كريمة مستقرة وآمنة.
لقد توقف التقدم والتطور في أوروبا عندما تسلطت الكنيسة على العقول، واليوم نرى بعد أكثر من سبعة قرون على تحرير العقل في أوروبا وانطلاقها في كل مجالات العلم والتطور والمخترعات التي حققت للإنسان فوائد كبيرة، بدءًا من صناعة الطائرات واستنباط بذور جديدة للزراعات تفيد الكم والكيف.
ومازالت بعض الهيئات الدينية في عالمنا الإسلامي متسلطة على العقول، تمنع فريضة إلهيَّة في التدبر والتفكر في كل ما يصلح الإنسان، فلتستيقظ العقول من سباتها، فقد فات الأمة العربية الزمن، فبدلا من أن تكون حاملة شعلة الحضارة الإنسانية، تخلفت بعيدًا عن ركب التقدم والتطور وأصبحت عالة على ما يصدره لها الغرب من الفتات.
لقد سبقت الأمة العربية الغرب بأكثر من أربعة عشر قرنًا، حيث فرض الله سبحانه فريضة التفكر وكرَّم آدم على جميع مخلوقاته بالمعرفة، حينما علَّمه الأسماء كلها ، وأكَّده القرآن الكريم عندما منح الله الإنسان شفرة العلم والبحث عن المعرفة بأمره لرسوله (ﷺ) في سورة (إقرأ)، حيث إن القراءة مفتاح المعرفة وكرم الله سبحانه آدم بالعلم.
فماذا فعل بنا العلماء المسلمون؟ أغرقوا عقولنا في روايات وأساطير إسرائيلية ترتب عليها نشوء طوائف عدة تقاتل بعضها ، ومرجعيات متصارعة وأتباعها تأخذهم العزة بالإثم عزلوا القرآن عن توجيه المجتمعات الإنسانية لما يُصلح أمرها ويحقق لها النمو والإستقرار.
فمن المسئول عن طمس معالم المعرفة وتضليل المسلمين؟ يتيهون في طرق مظلمة وبيدهم كتاب الله يقول تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ «٦») (الجاثية).
فلا خلاص للمسلمين إلا بالعودة للخطاب الإلهي والبحث في آياته واستنباط التشريعات منه وحده، وهو سبحانه الأحرص على خلقه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، رافعين مشاعل الرحمة والحرية والعدالة، محافظين على مبادئ حقوق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة، مدافعين عن الأمن والسلام لكل الإنسانية جمعاء.
ذلكم هو الإسلام الحق الذي يخاطب به الله الناس جميعًا أن يتفكروا في خلق السموات والأرض، ويُسخّروا ما تحقق لهم من نتائج من خلال الأبحاث العلمية والإكتشافات في المجالات المختلفة، لتكون في خدمة الإنسانية، والإلتزام بأخلاق الإسلام ونبل مقاصده، والتقيُّد بالتشريع الإلهي الذي يحقق العدالة بين الناس، والدعوة في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن؛ ليستعيد المسلمون وحدتهم وتتلاحم أفكارهم وتتقارب أفهامهم لتحقيق فريضة الله التي تدعو المسلمين للوحدة وعدم الفرقه، بقوله تعالى: ) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا «١٠٣») (آل عمران).
ولذلك على الذين يُدعون بعلماء الإسلام أن يكونوا قدوة في السلوك الذي يدعونا له الإسلام وأسوة بأخلاقيات رسولنا العظيم (ﷺ).